فصل: مطلب الآية المدنية وإهلاك فرعون ونزول عيسى عليه السلام وما نزل في عبد اللّه بن الزبعرى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولولا كثرة الباكين عندي ** على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن ** أعزّي النفس عني بالتأسي

فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم في العذاب ولكن لا يروّحهم لعظم ما هم فيه، قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ} في علم ربك الأزلي {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} كلا لا تقدر أن تهديه ولا تفدر على هداية من أضللناه.
{فَإِمَّا} مركبة من إن الشرطية وما التأكيدية للشرط مثل لا التي في الاقسام {نَذْهَبَنَّ بِكَ} لنمينك وننقلك إلى الدار المهيأة لكرامتك قبل أن نوقع فيهم ما قدر لهم من العذاب {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} 41 لك منهم بعدك في الدنيا وفي الآخرة لا محالة، لأنا لا نتركهم سدّى وهم قد فعلوا ما فعلوا، واقتصر بعض المفسرين هنا على عذاب الآخرة وبعضهم على عذاب الدنيا لقوله تعالى: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} إلخ الآية 43 من سورة يونس المارة والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما جرينا عليه أتمّ فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكر الانتقام فلا تدل على تخصيص العذاب في الدنيا، لأن من يهدده اللّه بعذابه في الآخرة لا يؤمنه من عذاب الدنيا، كما أن من يعذبه في الدنيا لا يحتم عذابه في الآخرة {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ} به من العذاب الدنيوي قتلا وأصرا وجلاء في حياتك {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} 42 في كل وقت، وهذا من قبيل التسلية لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاما له بإنجاز وعده إياه بالانتقام الشديد من المشركين في حياته أو بعد وفاته، وقد كررت هذه الآية معنى في الآية 46 من يونس والآية 77 من المؤمن المارتين وفي الآية 40 من سورة الرعد في ج 3 وغيرها لأنها بمثابة العهد لحضرة الرسول من ربه عز وجل بنصرته والانتقام له من أعدائه، قال تعالى يا محمد {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} من هذا القرآن وأدم العمل به كما أنت عليه {إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} 43 في طريقتك لا ميل فيها ولا عوج {وَإِنَّهُ} القرآن الموحى إليك {لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} في حياتك وبعد موتك وشرف عظيم تذكرون فيه بالملأ الأعلى وفي الأرض {وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} 44 عنه يوم القيامة هل قمتم بحقه فشكرتموه حق شكره وعظمتم منزله حق تعظيمه أم لا راجع الآية 30 من سورة الفرقان في ج 1، ويؤذن إفراد الضمير بالخطاب كله وجمعه آخر الآية أن المراد بمن يسأل هو قومه، لأنهم هم الذين يترقب منهم التقصير حاشا البشير النذير أن يقصر في شكر ربه وتعظيمه، كان صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية إذا سئل لمن يكون الأمر في أمتك من بعدك؟
يسكت، لأن اللّه لم يخبره بذلك وهو لن ينطق من نفسه فيما هو من هذا القبيل، فلما نزلت هذه الآية صار يقول لمن يسأله: هو لقريش.
وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان».
وروى البخاري عن معاوية قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه اللّه تعالى على وجهه ما أقاموا الدين».
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: «كنت قاعدا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال ألا إن اللّه تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه» (الحديث).
راجع بحث النزول في المقدمة، وفيه: فالحمد للّه الذي جعل الصدّيق من قومي والشهيد من قومي، إن اللّه تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة، إلى أن قال عدي ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سرّه حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم.
وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية التي تشير إلى أن الإنسان بالطبع يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن هذا مرغوبا فيه لما امتنّ به على رسوله بقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} ولما طلبه إبراهيم عليه السلام من ربه بقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} الآية 84 من سورة الشعراء ج 1، وهو لا يسأل اللّه شيئا لنفسه من نجاته من النار، راجع الآية 83 من الصافات المارة، والآية 258 من البقرة في ج 3 وما يرشدانك إليه تقف على ما جرى لإبراهيم مع قومه وربه وأبيه والنمرود وغيرهم، وذلك لأن الثناء خير من الغنى، وقائم مقام الحياة الشريفة، ولذا قيل ذكر الفتى هو عمره الثاني، وقال ابن زيد:
إنما المرء حديث بعده ** فكن حديثا حسنا لمن وعى

وقال الآخر:
إنما الدنيا محاسنها ** طيب ما يبقى من الخبر

فقد يكون الذكر أفضل من الحياة لأنه يحصل في كل مكان بخلافها، حكي أن الطاغية هلاكو بعد أن بلغ ما بلغ من الظفر سأل أصحابه من الملك؟ فقالوا أنت دوخت البلاد، وأطاعتك الملوك، وملكت الأرض، وصار العباد في طوعك، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن، فقال كلا، الملك هذا الذي له أكثر من ستمئة سنة قد مات، وهو يذكر الآن على المآذن كل يوم وليلة خمس مرات ذكرا مكررا من ملايين الناس، يريد محمدا صلى الله عليه وسلم.
ولو لم يقل هذا الجبار هذه الجملة الدالة على حضرة الرسول لصرف قوله إلى الملك الأعظم حضرة المولى جلّ جلاله لأن ذكره على المآذن أكثر من ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم ولاثيب بكلامه هذا ثوابا عظيما يوشك أن يقربه إلى اللّه، ولكن أبت نفسه بل أبى اللّه أن يلهمه ذلك، وهو إنما قالها بحق الرسول حسدا ليس إلا.
وهذه الآية نزلت في بيت المقدس قبل الهجرة زمن الإسراء، فتصير مكية أيضا، وهي {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 45 قال ابن عباس لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بعث له آدم وولده من المرسلين، فأذن جبريل وأقام الصلاة، وقال يا محمد تقدم فصلّ بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل اسأل يا محمد وتلا الآية، ان قريشا زعمت أن للّه شريكا وأن الملائكة بناته، وزعمت اليهود والنصارى أن له ولدا، فاسأل هؤلاء الأنبياء جميعهم هل كان شيء من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم «لا أسأل قد اكتفيت».
وقالت عائشة رضي اللّه عنها: قال عليه السلام «ما أنا بالذي أشك، وما أنا بالذي أسأل»، فكان صلى الله عليه وسلم أثبت يقينا من ذلك.
هذا، وقال أبو القاسم المفسر في كتابه التنزيل: نزلت هذه الآية في بيت المقدس ليلة المعراج، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام أقرّوا للّه تعالى بالوحدانية وقالوا بعثنا في التوحيد، وبهذا قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد، وهذا القول أقوى وأوثق من القول بأنها نزلت في السماء ليلة المعراج، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلّ بالأنبياء في السماء، وإنما صلى بالملائكة كما بيناه في قصة الإسراء والمعراج أول سورة الإسراء في ج 1، على أن ما وقع في المعراج لا يعد حجة لوجود الخلاف فيه بخلاف الإسراء المجمع عليه وعلى كفر من ينكره، وكانت الصلاة بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس.
وهذا الأذان والصلاة الكائنة بالأنبياء في الأرض والتي بالسماء بالملائكة هي غير الأذان والصلاة المفروضة، لأنها لم تفرض بعد إذ كان ذلك عند العروج، وقد ذكرنا ما يؤيد هذا هناك، وهذا التفسير أولى من تقدير كلمة (أمم) قبل لفظ (مَنْ) أي اسأل أمم من أرسلنا من قبلك من أقوامهم الموجودين في زمنك من أهل الكتابين وغيرهم، إذ لا مانع من إجرائها على ظاهرها، ولا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف أو تأويل آخر، وعلى كل إنه لم يأت نبي ولا رسول ولا كتاب بعبادة غير اللّه تعالى القائل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقال} إلى فرعون {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ} 46 إليكم وإلى بني إسرائيل، وفيها تعريض لما يدعيه فرعون من الربوبية الكاذبة {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا} المار ذكرها في الآية 132 من الأعراف في ج 1 {إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ} 47 سخرية بها واستهزاء، وقد علمت ما فعل اللّه بهم، قال تعالى: {وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها} التي أريناها لهم قبلها، أي أن كل آية منها موصوفة بالكبر والعظم على حد قولك إخواني كل منهم أكرم من الآخر أي كلهم كرماء، وعليه قول الحماسي:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ** مثل النجوم التي يسري بها الساري

أي كلهم أكابر عظماء {وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ} الأدنى أولا كالقحط والنقص والطوفان والدم والقمل والجراد {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 48 عن كفرهم لترحمهم فلم يرجعوا، ولم تؤثر بهم الآيات ونقضوا عهودهم التي أعطوها لموسى بالإيمان به عند كشف كل آية {وَقالوا} فرعون وملؤه {يا أَيُّهَا السَّاحِرُ} الماهر في السحر، إذ كان السحرة عندهم مقدمين لما يرون من أعاجيبهم، كما أن الطبيب كان مقدما زمن عيسى عليه السلام، وذا الفصاحة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم وكان التفاخر بها ساريا بينهم فالطبيب والبليغ له القدم الأعلى عند قومه {ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ} بأننا إذا آمنا يكشف عنا العذاب فاسأله يكشفه {إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ} 49 وقد دعى فكشف عنهم وعادوا مصرين على كفرهم ومتهمين رسولهم بالسحر، قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ} الأخير كما هو الحال في كل مرة.
{إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} 50 بعهدهم أيضا، ويقولون ما أصابنا إلا الخير لما يروا بعد كشف كل آية من آيات عذابهم خيرا وبسطة.
{وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} بقصد إغرائهم {قال يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} وكان قصره يمر من تحته نهر النيل يتدفق يمينا وشمالا، قالوا له نعم، ثم قال لهم {أَفَلا تُبْصِرُونَ} 51 عظمتي وفقر موسى وضعفه، قالوا نعم نبصر وقد جمعهم وخطب فيهم هذه الغاية، قال لهم {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا} يشير إلى موسى عليه السلام وقد كذب بل شر من كل ذي شر، ثم وصم موسى عليه السلام وحاشاه مما وصمه به، فقال ما موسى بخير مني بل أنا خير من هذا {الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ} 52 يفصح عن كلامه عايه الخبيث باللثغة التي سببها هو كما بيناه في الآية 27 من سورة طه في ج 1، وأجاب نفسه بالتفضيل عليه ولم ينتظر جواب قومه الذين جمعهم وألقى عليهم هذه الجملة، إذ انتقل بنفسه من ذلك إلى الإخبار بالأخيرية، وعليه قول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أم أنت بالعين أملح

ثم بين نوعا آخر من أسباب افتخاره فقال: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} مثلي ليعلم الناس أنه ألقي إليه مقاليد الملك فيطيعونه وينقادون لأمره، وكان في ذلك الزمن إذا سور الرجل بسوارين من ذهب وطوق بطوق من ذهب يكون دلالة على سيادته في قومه، ويريد الملعون بقوله هذا أن لو كان لما يدعيه موسى من صحة بأنه رسول اللّه رب العالمين أجمع لألبسه الذي أرسله أسورة ذهبية إعلاما برسالته وإيذانا بلزوم طاعته لينقاد له الناس {أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} 53 بعضهم ببعض متتابعين يشهدون له بصدق ما جاء به ويعينونه على من خالفه على الأقل إذا لم يحلّ بما يدل على السيادة والحاكمية، قالوا له لم يسور ولم تأت معه الملائكة قال لهم حينئذ لا صحة لدعواه قالوا نعم، وقد ظن اللعين أن الرياسة والقوة من لوازم الرسالة في المرسل ولم يعلم أن اللّه الذي أرسله كافيه عن ذلك، ويقرب من قوله قول كفار قريش {لَوْلا نُزِّلَ هذَا القرآن عَلى رَجُلٍ} الآية 31 المارة.

.مطلب الآية المدنية وإهلاك فرعون ونزول عيسى عليه السلام وما نزل في عبد اللّه بن الزبعرى:

هذه الآية المدنية من هذه السورة وذلك أنه حينما تليت عليهم الآيات المارّة التي ذكرها اللّه تعالى عن فرعون قالوا وكيف أطاعه قومه وهم عقلاء، وكان بهم قوام الملك، وكيف سمعوا قوله، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} بما موّه عليهم من كلامه، ولمّا رآهم يسمعون له علم أنهم سخفاء، لأنه يعلم أنه لا يصغي لقوله ذلك عاقل، وأنه استفزهم بكلامه، فأذعنوا له وطأطئوا رءوسهم لسلطانه، وقد استزلهم بما ألقى عليهم من عظمة لجهلهم بحقيقة الأفضلية التي ذكرها لهم وعدم علمهم بأن الرسالة لا تستلزم الرياسة والمال والقوة، وكانت هذه الثلاثة من دواعي التسلط على البشر فموّه عليهم بها وهو يعرف من أين تؤكل الكتف، فصدقوا أقواله الواهية {فَأَطاعُوهُ} ووافقوه على تكذيب موسى بما استخف من عقولهم {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ} 54 خارجين عن الطاعة منقادين لإغواء فرعون مغرورين في النظر إلى الأمور الظاهرة، قال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونا} أسخطونا وأغضبونا بإفراطهم لطاعة فرعون وتفريطهم بالإعراض عن موسى وصاروا بحالة يؤسف عليها فقد استوجبوا إنزال العذاب عليهم وعدم الحلم الذي عاملناهم به لذلك {انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ} 55 مع فرعون وملائه الذين أركسوهم بذلك {فَجَعَلْناهُمْ سَلَفًا} إلى النار وقدوة إلى الكفار {وَمَثَلًا} عبرة وموعظة {لِلْآخِرِينَ} 56 من بعدهم بأن صار حديثهم تتداوله الألسن وصار يضرب المثل لسيدهم، فيقال لكل باغ لم يقبل النصح مثلك مثل فرعون، وتقدمت كيفية إغراقهم في الآية 53 من سورة الشعراء ج 1، قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} بالعبادة من حيث أن النصارى عبدته كما عبدت العرب الملائكة {إِذا قَوْمُكَ} يا سيد الرسل {مِنْهُ} من هذا المثل {يَصِدُّونَ} 57 بكسر الصاد أي يضجّون وقرىء بضمها بمعنى يعرضون عنك ولا يلتفتون لقولك، والقراءة الأولى أولى وأنسب بالمقام، أي يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا أو ضحكا مع إعراض وتمايل {وَقالوا} قومه من قريش {أآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} يعني عيسى عليه السلام يخاطبون محمدا صلى الله عليه وسلم قال له ربه {ما ضَرَبُوهُ لَكَ} أي المثل بعيسى {إِلَّا جَدَلًا} خصومة بالباطل لا حقا ولا لطلب التميز بين الحق والباطل، بل لئلا يفهموا الحق فيذعنوا له {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 58 ألدّاء شديد والخصومة واللجاج على طريق المغالبة والمكابرة والوقاحة، أخرج الترمذي عن أبي أمامة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا هذه الآية».
وقد نزلت هاتان الآيتان في عبد اللّه بن الزبعرى القرشي قبل إسلامه، إذ كان يقول لحضرة الرسول إذا كان الآلهة المعبودة كلها في النار وأن اليهود عبدت عزيرا والنصارى عيسى بن مريم وبنو مليح من العرب عبدت الملائكة ونحن عبدنا الأوثان فترضى أن تكون آلهتنا مع هؤلاء، ونحن مع أولئك، إذ ليس ما عبدناه بأحسن مما عبدوه، ولسنا بأحسن منهم أيضا، ففرحت قريش، ارتفعت أصواتهم بالضحك على زعمهم أنه حج محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يعلموا أن هؤلاء بمعزل عن أن يكونوا معبودين، كيف وهم عبيد لمولاهم وهم أطوع الناس إليه، ولم يرضوا بعبادتهم وأنهم سيتبرءون منهم بحضورهم في الموقف العظيم يوم يخيب ظنهم وظن أمثالهم بكل معبود من دون اللّه تعالى، فرد اللّه عليهم بما تقدم من أنهم ضربوا لك هذا المثل على طريق الجدال عنادا وعتوا، وسيأتي تمام هذا البحث في الآية 99 من سورة الأنبياء الآتية إن شاء اللّه فراجعه.
قال تعالى: {إِنْ هُوَ} ما عيسى ابن مريم الذي ضربتم به الأمثال وقلتم ما قلتم فيه بأنه إله وهو براء من ذلك، إذ ليس بإله وما هو {إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ} بالنبوة والرسالة كسائر عبادنا الذين اصطفيناهم لإرشاد العباد {وَجَعَلْناهُ مَثَلًا} عبرة عجيبة وآية كبيرة {لِبَنِي إِسْرائِيلَ} 59 إذ خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم من للتراب، راجع الآية 90 من آل عمران في ج 3، وصار يضرب فيه المثل ليتأكدوا من قدرة اللّه تعالى ويعلموا أن العبد المخلوق لا يكون إلها، قال تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا} ولدنا منكم يا أهل مكة وأنتم رجال ليس من شأنكم الولادة كما ولدنا حواء من آدم على خلاف ما جرت به العادة {مَلائِكَةً} كما ولدنا عيسى، وهذا تذييل لوجه دلالته على القدرة البالغة وهو أعجب وأبدع من خلق عيسى من غير أب، أقررناهم {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} 60 يخلفونكم فيها في السكن والتصرف كما كنتم خلفا لمن قبلكم وكما يخلفكم أولادكم، وإذا صيرناهم كذلك فإنهم لا يستحقون العبادة أيضا لأنهم مخلوقون مثلكم، إلا أن خلقهم على طريق الإبداع وشأنهم التقديس والتحميد والتسبيح، وأنتم خلقكم بطريق التوالد وشأنكم العمل، ومع هذا فنحن قادرون على أن نخلقهم منكم ونجعلهم يعملون كما تعملون من عمارة الأرض ويعبدونني ويطيعونني كالملائكة في السماء ونجعلهم متصرفين في الأرض، كما أن الملائكة يتصرفون في السماء.